هذا الموضوع جاء ردا على احد الاخوة وكان يناقشنى فى موضوع مين فينا الغلطان
بسم الله الرحمن الرحيم
الذريعة هي: الوسيلة أو الطريق الموصل إلى الشيء المقصود، فسدّ الذرائع هو منع الطرق والوسائل التي ظاهرها الإباحة؛ لكنها تفضي إلى الممنوع.
دلت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة على أنَّ هذا الأصل معمولٌ به في الشريعة، كقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ..}، مع أنَّ سبّ الكفار في أصله مشروع، لكن إذا أفضى إلى مفسدة سبهم لله تعالى فإنه يُنهى عنه.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا..}، ففي هذه الآية نهى الله عن الإقامة في أرض الكفر وترك الهجرة إلى بلد الإسلام، مع أنَّ الإقامة لا يلزم منها في ظاهرها كفر ولا نفاق ولا ما دون ذلك، ولكن لما كانت الإقامة الدائمة بين ظهراني الكفار تؤثر في سلوك المسلم واعتقاده وتعرضه للفتن ولو بعد زمن، نهى الله عنها سداً لذريعة المفسدة.
وقوله صلى الله عليه: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما"، مع أنَّ الخلوة في ظاهرها لا محظور فيها، ولا يلزم منها الوقوع في الفاحشة، لكنها لما كانت ذريعة إليها غالباً حرَّمها الشرع، فتحريمها من تحريم الوسائل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع". فأمر بالتفريق بينهم في المضاجع خشية أن يفضي نومهم في مضجع واحد إلى وقوعهم في الفاحشة.
والشواهد على أصل العمل بسد الذرائع كثيرة مستفيضة في نصوص الوحيين، ومنها قرر أهل العلم قواعد مهمة في هذا الباب، منها: "للوسائل أحكام المقاصد"، "كل ما أفضى إلى حرام فهو حرام".
يقول ابن القيم (إعلام الموقعين 3/173): "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها؛ كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرَّمات، والمعاصي في كراهتها، والمنع منها، بحسب إفضائها إلى غاياتها، وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليها، فإنه يحرمها، ويمنع منها؛ تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل المفضية والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى تأبى ذلك كل الإباء" اهـ.
لم ينفرد علماء الشريعة بالعمل بهذا الأصل (سد الذرائع)، بل هو معمول به حتى في الأنظمة والقوانين الوضعية، وما من دولة إلا وهي تعمل بقاعدة سد الذرائع في أنظمتها وقوانينها، وإن اختلفت في درجة العمل به تضييقاً أو توسيعاً.
أصل قاعدة سد الذرائع متفق عليه بين أهل العلم، فكل ما يفضي إلى الحرام قطعاً فهو حرام عند أهل العلم جميعاً، ولا خلاف بينهم في هذه الصورة، وكذلك ما نصَّ الشرع على تحريمه مما يفضي إلى الحرام غالباً؛ كالخلوة مثلاً، فهم متفقون على تحريمها؛ عملاً بالنص، لا إعمالاً لسد الذرائع.
كما ذهب جمهور العلماء إلى العمل بسد الذرائع فيما يفضي إلى الحرام غالباً، وإن كان لا يُقطع بإفضائه إليه؛ استشهاداً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالمرأة الأجنبية، وبنهيه عن الدخول على المغيبات، وعن سفر المرأة بلا محرم، فهذه الصورة لا تفضي إلى الحرام والمفسدة قطعاً، وإنما تفضي إلى الحرام في الغالب، فاعتُبِر، وإن كانت أحياناً لا تقع بها فتنة ولا فاحشة.
ثم وقع خلافهم فيما دون ذلك مما تردد فيه الأمر: هل يفضي إلى الحرام أم لا؟ أو تساوى فيه الاحتمالان؟ فمنهم من يعمل القاعدة فيه، ومنهم من لا يعملها.
ومهما يكن؛ فهو من مورد الاجتهاد الذي تختلف فيه المدارك والأفهام، وتتباين فيه الأقوال، فلا تثريب ولا تشديد ما دام أنَّ المجتهد قد اجتهد وسعه، وأعمل فكره، وراعى المقاصد، ووازن بين المصالح والمفاسد.
وأما الذرائع الضعيفة والتهمة البعيدة، فلا ينبغي أن تُعمل فيها القاعدة فتُسدُّ؛ لأنَّ العبرة بالغالب، وهي في الغالب لا تُفضي إلى المنكر، فمنعها ضربٌ من التضييق، وإفراطٌ في أعمال (سد الذرائع).
قال القرافي: (كما نقله عنه الزركشي في البحر المحيط 8/90): "فإنَّ من الذرائع ما هو معتبر إجماعاً، كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين.. وسب الأصنام عند من يُعلم من حاله أنه يسب الله، ومنها ما هو ملغي إجماعاً؛ كزراعة العنب؛ فإنها لا تمنع خشية الخمر، وإن كان وسيلة إلى الحرام، ومنها ما هو مختلف فيه؛ كبيوع الآجال، فنحن ـ أي المالكية ـ نعتبر الذريعة فيها ويخالفنا غيرنا، فحاصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنها خاصة ـ أي بمذهب المالكية ـ" اهـ.
إنَّ الذريعة التي يجب أن تُسد هي الخطوة القريبة التي تفضي إلى المنكر يقيناً أو في غلبة الظن، أما الخطوات البعيدة التي بينها وبين الحرام خطوات أدنى فتحريمها بحجة سد الذرائع هي نفسها ذريعة إلى التشديد والتضييق يجب أن تُسد؛ فمثلاً: يحرم الإسلام من الاختلاط ما هو مظنة المزاحمة والخلوة؛ لكن لا يجوز بحال أن نحرِّم على الناس أن يمشوا جميعاً ـ رجالاً ونساء ـ في طريق واحد، أو نحرم عليهم مجرد الاجتماع في مكان واحد يحويهم جميعاً!
والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينع النساء من المرور بطريق يمر به الرجال، وإنما أمرهن بالبعد عن مزاحمتهم؛ منعاً من تماس الأجساد، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ لما خرج الرجال والنساء من مسجده جميعاً: "لا تُحقِقن الطريق، ولكن عليكن بحافة الطريق". فهو ـ كما ترى ـ تجنب للمزاحمة والاختلاط الذي يفضي إلى الفتنة، لا تجنبٌ لمشي الرجال والنساء في طريق واحد.
لئن اختلف أهل العلم في درجة الأخذ بقاعدة (سد الذرائع) والتوسع في إعمالها، فلا يصح أن نجعله من الاختلاف الذي يعود على أصل القاعدة بالنقض والبطلان، فقد اختلفوا في بعض صور القياس وضروبه، ولم يكن ذلك الاختلاف مبطلاً لحجية القياس، ولا ناقضاً لأصله.
إنما ذلك الاختلاف اختلافٌ في التطبيق وإعمال القاعدة وتحقيق منطها، لا في أصل العمل بها.
إنَّ الذي نراه هو أنَّ المبالغة في سد الذرائع بحجة الغيرة على الأعراض لا يخدم الغرض نفسه، وقد يخدمه حيناً من الدهر؛ لكنه لا يلبث أن يكون عوناً ودافعاً للناس للتساهل في تقحم بعض الذرائع التي هي ـ حقيقة ـ فتنة واقعة، أو تفضي إلى الحرام، كردة فعل منهم على ذلك التشدد.
إنَّ تحريم الذرائع التي تفضي إلى الحرام قطعاً أو غالباً هو من قبيل تحريم الوسائل، لا من قبيل تحريم المقاصد، ولذا فما حرم من هذا القبيل فإنه يباح عند الحاجة ولو لم تكن ثمة ضرورة، ومن شواهد ذلك في كتب أهل العلم:
1ـ قولهم: "ما كان منهياً عنه للذريعة فإنه يُفعل لأجل المصلحة الراجحة" (ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 22/298، 23/214،186، وزاد المعاد 2/242، 3/488،88 إعلام الموقعين 2/142).
2ـ قولهم: "يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد". ينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص293.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى 23/186): "ثمَّ إنَّ ما نهي عنه لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة والسفر بها إذا خيف ضياعها، كسفرها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان بن المعطل؛ فإنه لم ينه عنه إلا لأنه يفضي إلى المفسدة، فإذا كان مقتضياً للمصلحة الراجحة لم يكن مفضياً إلى المفسدة".
وقال في موضع آخر (مجموع الفتاوى 23/214): "وهذا أصل لأحمد وغيره: في أنَّ ما كان من باب سد الذريعة إنما ينهى عنه إذا لم يحتج إليه، وأمَّا مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به وقد ينهى عنه؛ ولهذا يفرق في العقود بين الحيل وسد الذرائع: فالمحتال يقصد المحرم، فهذا ينهى عنه. وأمَّا الذريعة فصاحبها لا يقصد المحرم، لكن إذا لم يحتج إليها نهي عنها، وأما مع الحاجة فلا" اهـ.
ويتبيَّن مما سبق: أنَّ إباحة ما حُرِّم للذريعة لأجل الحاجة منزعه من الترجيح بين المصالح والمفاسد، فما كانت مصلحته أرجح من مفسدته في حالة من الحالات، فإنه لا يسدُّ في تلك الحالة، بل يباح مراعاة للمصلحة الراجحة وإلغاء للمفسدة المرجوحة.
وقد مثّل لذلك ابن تيمية بعض الأمثلة: كالنظر إلى المخطوبة، والسفر بالأجنبية إذا خيف ضياعها ونحو ذلك، ويلحق بذلك نظر القاضي إلى وجه المرأة، وككشف المرأة عورتها للطبيب عند الحاجة.
ومن الأمثلة المعاصرة اليوم: "وجود دخول رجال الأمن والدفاع المدني على المغيّبات اللاتي غاب عنهن محارمهن عند الحاجة لذلك؛ كحدوث حريق أو نحو ذلك، ومن المعلوم أنَّ الدخول على المغيبات لا يجوز، لكن لما كانت المصلحة في الدخول أعظم من مفسدتها انتقل الحكم من الحرمة إلى الجواز، بل الوجوب في حالات الضرورة التي تتعرض فيها النفوس والأطراف للتلف والتهلكة.
مصطلح "فتح الذرائع" مصطلح عبَّر به بعض العلماء، كالقرافي، حيث يقول ـ شرح تنقيح الفصول ص449 ـ: "اعلم أنَّ الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، ويكره، ويندب، ويباح.."، ويقول ابن عاشور ـ مقاصد الشريعة ص369 ـ: "إنَّ الشريعة قد عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها".
والقواعد الفقهية تؤيد هذا؛ ولكن بعبارات أخرى، مثل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، و" ما لا يتم المباح إلا به فهو مباح" مجموع الفتاوى لابن تيمية 29/70.
غير أنَّ استعمال هذا المصطلح "فتح الذرائع" ـ فيما أحسب ـ فيه إيهام حتى وإن كان مستعملاً عند بعض أهل العلم، إذ يتوهم من يسمع به أنَّ المقصود هو فتح الذرائع التي سُدَّت، لإفضائها إلى المحظور.
ولذا وقف بعض الأحبة من هذا المصطلح موقف الرافض؛ ظناً منه أنَّ المقصود هو فتح الذرائع التي تفضي إلى الحرام، وليس بصحيح، وإنما المقصود هو فتح وسائل المباح والواجب والمندوب.
ورفعاً لهذا اللبس والإيهام: فالأولى ترك استعمال هذا المصطلح إلى التعبير بـ"التوسط والاعتدال في إعمال قاعدة سد الذرائع" بحيث لا يُسد من الذرائع إلا ما أفضى إلى المحظور غالباً، وكانت مفسدته أرجح من مصلحته؛ لأنَّ التوسط في إعمال هذه القاعدة يجعل ذرائع المباح مفتوحة للناس استصحاباً للأصل ـ وهو أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة ـ واستصحابا للبراءة الأصلية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.